-
حروب لبنان… إدمان القراءة وتكرار الخطأالثلاثاء, 27 ديسيمبر 2011
يستهل عادل مالك كتابه «1958 القصة – الأسرار – الوثائق» (منشورات «دار سائر المشرق – جديدة المتن/ لبنان2011)، بسؤال: لماذا هذا الكتاب؟ ثم لا يلبث أن يجيب، أنه كتاب معلومات لا موقف. ,ختام سرد عادل مالك، يحمل السؤال ذاته، ويؤكد على الإجابة الابتدائية. ولكي تتحقق المعلومة، يذهب الكاتب إلى معاصريها، ويسأل أولئك الذين ساهموا في «صناعتها»، وانخرطوا في ميدان تجربتها. ينقل ما وصل إليه، لتكون للقارئ اللاحق، حرية الاستنتاج، وطلاقة الخلاصة، التي لا يقيدها السؤال الختامي لعادل مالك: هل تعلمنا؟
تدحض الشهادات الحية أفكاراً، وتؤكد أخرى، يظهر ذلك في الحديث عن أسباب «الثورة» التي كانت الاختبار الأول لصيغة الاستقلال، وفي التداخل بين العوامل الخارجية والداخلية، التي أحاطت بالوضع اللبناني آنذاك، وفي ما راج حول أسباب هذا التداخل، من «عمالة للغرب»، أو التحاق «بالوحدوية العربية». لكن، وفي موازاة قراءة اللاعبين السياسيين لأدائهم، لا بديل من قراءة أولئك، وسيرهم وأفكارهم، من موقع القارئ المتأخر، الذي يعود إلى الماضي لاستجلاء حاضره، ولتبيّن احتمالات مستقبله. مواضيع سياسيي 1958 كثيرة، وهي لا تزال راهنة، بالمعنى الحرفي للكلمة، وضمن معطيات جديدة، ومع موازين قوى اجتماعية مختلفة. في هذا السياق، نطرح نحن سؤال عادل مالك، بصيغتنا: هل الخارج خارج في لبنان؟ أم أنه من أبناء «الخؤولة والعمومة»، الداخلية؟ ما جرى في الماضي، والتوابع حتى اليوم، يقترع في مصلحة القول: لقد كانت «الدواخل» اللبنانية، مرتكزات كل «الخارجية» ومستنداتها، منذ عهد القائمقاميتين في القرن التاسع عشر وحتى آخر متصرف أجنبي، في لبنان القرن الواحد والعشرين.
كيف يعبر اللبنانيون عن ذلك؟ من خلال توزعهم على ولاءات بنيوية، فيها الحزبية الضيقة، والطائفية والمذهبية الأشد ضيقاً، التي تبحث عن ضمانة امتيازاتها خارج حدودها، ثم تعطي لهذه الضمانة معنى الوجود، بحيث لا يقرأ هذا الأخير، في استمراريته، إلا بارتباطه بها، وبحيث تظل «الهوية» خائفة، طالما أن هوية الآخر الطائفي تشكل تهديداً داخلياً مستمراً.
على صعيد ملموس، شكل الغرب امتداداً لبعض «وجوديات» التشكيلة اللبنانية، تحت غطاء مسميات الحضارة والانفتاح، كما شكلت العروبة امتداداً لوجوديات أخرى، في غلاف المبادئ المشتركة، للأمة العربية الواحدة، التي لا تشوب وحدتها شائبة!
«شرعية» الاتصال بالخارج
قضية الاتصال بالخارج أو الانفصال عنه، صارت وجهة نظر، هذا ما يرد على ألسنة بعض الذين يستنطقهم عادل مالك، ووجهة النظر هذه تعممت واشتد عودها، في غياب مفهوم المواطنة، تعوزه المشتركات الوطنية الكبرى، التي هي غائبة بدورها. على هذا الأساس يختلط مفهوم الارتباط بالأجنبي، أو الاستعانة به، فهو من جهة ممارسة وطنية، تفرضها واجبات الدفاع عن الاستقلال والمصير، وهو من جهة ثانية، التحاق مشبوه بالاستعمار، وأداة لتنفيذ مخططاته، عليه يتوزع اللبنانيون بين عملاء ووطنيين، وفق قسمة ما زالت مفاعيلها سارية.
في خضم ذلك، يستسهل البعض تنزيه الخارج، أو «أبلسته»، فنزول الأسطول السادس الأميركي على الشواطئ اللبنانية يكون عادياً، واستجابة لنداء الشرعية اللبنانية، والسلاح المهرب إلى لبنان من سورية، لجعل البلد الإقليم الثالث في الجمهورية العربية المتحدة الوليدة، أمر تقتضيه أواصر النجدة العربية، وتمليه أجندة الدين والتاريخ. لكن ما ينسبه بعض المتدخلين اللبنانيين إلى طموحات جمال عبد الناصر، ينفيه البعض الآخر، وما يستبعده فريق لبناني عن حيثيات التدخل الأجنبي، تعود السيرة الأجنبية ذاتها لتأكيده. في الحالتين، لم تكن هواجس اللبنانيين هي المحركة الوحيدة للخارج، بل إن اللوحة الإقليمية وحساباتها كانت حاضرة، خصوصاً بعد الانقلاب في العراق، ودائماً تحت مظلة حرب مناطق النفوذ بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، القادم «حديثاً»، إلى المنطقة العربية.
ومثلما وجد من ينفي أطماع الخارج، توفر للمشهد اللبناني من أنكر الأساس الداخلي للأزمة. لقد نقل إلينا الكاتب آراء شددت على أن السبب الأساسي للأزمة، جسدته رغبة الرئيس كميل شمعون في التجديد، ومن ثم سياسته التي انحازت إلى حلف بغداد ومبدأ أيزنهاور، مما شكّل تهديداً لاستقرار الصيغة التسووية الداخلية. هذه الآراء وجدت من يعارضها، ومن يعيد السبب إلى الشيوعية الدولية، التي استغلت بعض المطالب الاجتماعية «المحقة»، فدخلت إلى البنية اللبنانية تحت ستارها. مرّة أخرى من أراد التوقف أمام مسألة انفجار الوضعية اللبنانية، على شكل حرب أهلية متناسلة، سيجد القولين السالفين راهنين، وعلى ألسنة ساسة جدد، يشكلون استمراراً جامداً لتلك النظرات السالفة.
لم تعدم الأحداث التي مهدت لانفجار عام 1958، وتلك التي طبعت أيام هذا الانفجار، قوى حاولت أن تكون «قوة ثالثة»، لكنها باءت بالفشل، لأنها كانت نخبوية وهامشية، ولم تكن لتضاهي قوى الاستقطابين الآخرين، اللذين لامسا الانقسام الطائفي، بشرياً وجغرافياً.
شخصيات واتجاهات
شخصيات تلك القوى أدلت بكلام رصين ومتواضع، يذكر برصانة من يعتبر نفسه استقطاباً ثالثاً اليوم، وفي مقابلها شخصيات «الانشطارات» الكبرى التي قالت كلاماً عالياً، ما زال يتردد على ألسنة أخواتها، في اللحظة الراهنة. وإذا كان لا بد من التمييز، على سبيل الأمانة السياسية، فإنه لا بدّ من القول، إن ما صدر عن كمال جنبلاط، إبان 1958 ظل يطبع سيرة حياته اللاحقة، وأن ما أدلى به ريمون إده ظل لصيقاً بشخصيته «المشاكسة» ديموقراطياً حتى وفاته، وأن مدرسة بيار الجميل، توارثها أبناؤه وأحفاده، فحفظوها عن ظهر «قلب وعمل»، خصوصاً في بعدها الخارجي.
ضمن التمييز هذا، أفرد الكاتب حيزاً لشخصية الرئيس فؤاد شهاب، الذي حار في رغبته الرئاسية كثيرون، أو فسّر دوره على رأس مؤسسة الجيش تفسيرات متباينة، اتصالاً بهذه الرغبة، أو انفصالاً عنها. لكن ما لم يختلف فيه أحد، هو حكمة شهاب في إبعاد الجيش عن الصراع، لأنه مرآة الطوائف، وفي سعيه لاحقاً إلى بناء «دولة ما»، فلما فشل أعلن عزوفه عن الحكم، فأكّد من حيث لم يتكلم، أن العزوف كان موقفه الأصلي، قبيل 1958، وأثناءه. كان من اللافت ما قال أسد الأشقر، الذي أدلى برأي عقائدي، يكاد يكون غير مفهوم، إلا في بند وحيد فيه، استكمال الحرب الأهلية كأداة لتنفيذ الثورة القومية. وهم شائع، وقعت فيه «الحركة الوطنية» لاحقاً في حرب السنتين 1975-1976، عندما اعتنقت ذات الرغبة، متجاهلة حقيقة البنية اللبنانية الطائفية. لقد ثبت، من خلال الوقائع، أن العقلية الحزبية الجامدة، لا تستطيع الإحاطة بالوضع اللبناني المتحرك، وأن التبسيط النظري الحزبي، قاصر عن معاينة كل جوانب المسألة اللبنانية الشديدة التعقيد.
يمكث من مطالعة عادل مالك سؤال: هل تعلمنا؟ الإجابة تتولاها الوقائع اليومية المتتالية، التي تنبئ بجهل اللبنانيين تاريخهم، أو إدمانهم تدريس هذا الجهل في كراريسهم الطائفية المغلقة، ذلك أن الطائفيات السياسية المتقادمة، لا تستعمل «الإنترنت» إلا للبحث عن جذورها القبلية.
* كاتب لبناني